کد مطلب:167931 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:180

تأمل و ملاحظات
1) قد یتسأل المتأمّل عجباً من أمر هانی بن عروة (رض) الذی كان یعرف مكر ابن زیاد وغدره، وكانت خبرته السیاسیة والاجتماعیة وتجارب العمر الطویل تفرض علیه أن یحتمل احتمالاً قویّاً أن تكون حركة النهضة قد اخترقت من قبل جواسیس ابن زیاد: كیف مضی برجله إلی مواجهة المحذور من إهانة أو حبس أو


قتل دون أن یأخذ الاهبة والاحتیاط الكافیین لكلّ احتمالات لقائه بابن زیاد، كأن یأخذ معه من رجالات قبیلته (مذحج) مجموعة لایقوی معها ابن زیاد علی إهانته أو حبسه أو قتله، أو یوقف عند باب القصر كتیبة من قبیلته تقتحم القصر إذا استبطأته وقتاً محدّداً بینه وبینها!؟

وهذا تساؤل فی محلّه تماماً! ومن البعید جدّاً ألاّ یكون هانی (رض) قد فكّر بتلكم الاحتیاطات لمواجهة محذورات لقائه بابن زیاد فی القصر لو كان رسل ابن زیاد إلیه من الجلاوزة أو ممّن یرتاب فیهم هانی (رض)، لكنّ الرسل الذین انتقاهم ابن زیاد علی علمٍ ومكر هم ممّن لایرتاب هانی (رض) فیهم أو فی بعضهم علی الاقلّ، فمنهم عمرو بن الحجّاج الزبیدی الذی كانت ابنته رویحة زوجة لهانی، وأسماء بن خارجة، أو ابنه حسّان، [1] وهو زعیم قبیلة فزارة، [2] ومحمّد بن الاشعث زعیم قبیلة كندة، [3] فهؤلاء من كُبّار وجهاء الكوفة وأشرافها، ومن البعید جدّاً فی ظنّ هانی (رض) أن یكونوا رُسُلَ غدر أو أهلَ خیانة!

والظاهر أنّ هذا هو الذی جعلَ هانئاً (رض) یستبعد الاحتمال السیء، فلم یعدّ العدّة ولم یأخذ الاهبة والاحتیاط لمحذورات هذا اللقاء، فانطلت حیلة ابن زیاد علیه، وصدّق الرُسُل فی مانقلوه إلیه من أنّ ابن زیاد تفقّده لانقطاعه عنه، وقال إنّه لم یعلم بمرضه ولو علم به لقام بزیارته! فاستظهر هانیء (رض) أنّ ابن زیاد


حتی تلك الساعة لم یكن له علم بمكان مسلم علیه السلام، فدعا بثیابه فلبسها، وببغلة فركبها، ومضی معهم!

ومع استبعاد الاحتمال السیء واستظهار أنّ ابن زیاد لم یكن حتی تلك اللحظة قد علم بمكان مسلم علیه السلام، لایكون من الحكمة الامتناع عن لقائه، أو أخذ الاهبة والعدّة للمحذور منه، أوطلب الامان شرطاً للقائه، لانّ كلَّ ذلك سیكشف عن المستور، ویؤكّد التهمة، ویؤدیّ إلی تعجیل ضار فی توقیت قیادة حركة النهضة لموعد قیامها ضد ابن زیاد، ولعلَّ كلّ هذه الامور قد خطرت علی بال هانی بن عروة، فآثر المجازفة بنفسه دفعاً لكلّ تلك الاضرار والمساویء.

من هنا، یُستبعد ما أورده صاحب كتاب تجارب الامم حیث قال: (ودعا عُبید اللّه هانیء بن عروة، فأبی أن یُجیبه إلاّ بأمان! فقال: ماله وللامان، هل أحدث حدثاً!؟ فجاءه بنوعمّه ورؤساء العشائر فقالوا: لاتجعل علی نفسك سبیلاً وأنت بریء. وأُتیَ به...)، [4] أو ما رواه الطبری أنّ ابن زیاد قال لاسماء بن خارجة ومحمّد بن الاشعث: (إئتیانی بهانیء. فقالا: إنّه لایأتی إلاّ بأمان! قال: وماله وللامان، وهل أحدث حدثاً!؟ إنطلقا فإنْ لم یأتِ إلاّ بأمانٍ فآمناه!..). [5] .

2) یبدو أنّ حیلة ابن زیاد كانت قد انطلت حتی علی بعض رُسُلِه إلی هانیء بن عروة (رض)، إذ إنّ سیاق القصة یكشف عن أنّ أسماء بن خارجة [6] أو حسّاناً إبنه قد فوجیء بغدر ابن زیاد بهم وبهانیء (رض)، فانتفض ‍ معترضاً بعدما رأی ما


صُنع بهانیء (رض) وقال لابن زیاد: أَرُسُلُ غدرٍ سایر الیوم!؟ أمرتنا أن نجیئك بالرجل حتّی إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسیّلت دماءه علی لحیته، وزعمت أنّك تقتله!؟ فقال له ابن زیاد: وإنّك لهاهنا!؟ فَلُهِزَ وتُعتع وأُجلس ناحیة، وفی روایة الفتوح: (فضرب حتی وقع لجنبه.. فحبس فی ناحیة من القصر وهو یقول: إنّا للّه وإنّا إلیه راجعون، إلی نفسی أنعاك یا هانیء!). [7] .

أمّا محمد بن الاشعث فقد روی الطبری قائلاً (وزعموا أنّ أسماء لم یعلم فی أی شیء بعث إلیه عبیداللّه، فأمّا محمّد فقد علم به!..)، [8] وسواء أكان عالماً بخطّة ابن زیاد أم لم یكن یعلم، نراه وقد أدركه عِرق النفاق الضارب فی أعماق عائلته یقول متملقاً لابن زیاد: قد رضینا بما رأی الامیر، لنا كان أم علینا، إنّما الامیر مؤدِّب!

أمّا عمرو بن الحجّاج الزبیدی وهو أحد هؤلاء الرسل الذین جاؤا بهانی (رض) إلی ابن زیاد فقد غاب فجاءة ولم یشهد ما جری فی هذا اللقاء، مع أنّ المفروض عرفاً وهو أحد الرسل الثلاثة أن یبقی كوسیط لازالة السخیمة بین هانی (رض) وابن زیاد، أو لیحامی عن هانیء (رض) إذا تجاوز ابن زیاد حدّه واعتدی علیه كما حصل فعلاً خصوصاً وأنّ هانی بن عروة زوج ابنته!

إذن فغیابه المتعمّد فجاءة عن مسرح الحدث یكشف عن علمه المسبّق بخطة ابن زیاد للایقاع بهانیء (رض)، وعن تواطئه معه لحبسه وقتله! ولقد أراد من وراء هذا الغیاب الفاجیء المتعمّد أمرین: الاوّل هو أن یصرف عن نفسه حرج عدم دفاعه عن هانیء (رض) فی حال حضوره، كما یدفع بذلك عن نفسه أیضاً شبهة


تواطئه مع ابن زیاد لقتل هانیء (رض)، لقد كان عمرو بن الحجاج الزبیدی حقاً رسول غدر! أمّا الامر الثانی: فهو أنَّ هذا الخائن أراد أن یستبق الوقت لیمتطی موجة غضب قبیلة مذحج التی كانت ستثور حتماً لما أصاب هانیء (رض)، فیقود جموعها الزاحفة بسیوفها نحو القصر لانقاذه، وهناك لیفرّق هذه الجموع الغاضبة، ویصرفها عن القصر بخدعة مشتركة كما سیأتی بینه وبین شریح القاضی وابن زیاد! إنّ هذا الدور الخیانی نفسه دلیل آخر قاطع علی علم الزبیدی المسبّق بخطة ابن زیاد.

3) أظهرت هذه الروایة وكأنّ هانیء بن عروة (رض) إنّما امتنع عن تسلیم مسلم علیه السلام لابن زیاد لسبب أخلاقی عربی وإسلامی وهو حمایة الضیّف والذبُّ عن الجوار (واللّه إنَّ علیَّ فی ذلك الخزی والعار أن أدفع جاری وضیفی وأنا حیُّ صحیح، أسمع وأری، شدید الساعد كثیر الاعوان، واللّه لو لم أكن إلاّ واحداً لیس لی ناصر لم أدفعه حتّی أموت دونه!)، وفی هذا الموقف وبهذا الحدّ الاخلاقی شرف ومفخرة لهانیء (رض) وأ یُّ مفخرة!

لكنّ هناك نصوصاً تأریخیة أخری تؤكّد أنّ الدافع الذی منع هانئاً (رض) من تسلیم مسلم علیه السلام كان دافعاً أسمی وأعلی من الدافع الاخلاقی! وهو الدافع الایمانیّ الطافح بالولاء لاهل البیت (ع)، فقد روی ابن نما (ره) أنّ هانیء بن عروة (رض) قال: (واللّه إنّ علیَّ فی ذلك العار أن أدفع ضیفی ورسول ابن رسول اللّه، وأنا صحیح الساعدین كثیر الاعوان..)، [9] وفی روایة ابن أعثم: (بلی واللّه، علیَّ فی ذلك من أعظم العار أن یكون مسلم فی جواری وضیفی، وهو رسول ابن بنت


رسول اللّه (ص)...)، [10] وفی روایة المسعودی أنّ هانئاً (رض) قال لابن زیاد: (إنَّ لزیاد أبیك عندی بلاءً حسناً، [11] وأنا أُحبّ مكافأته به، فهل لك فی خیر؟ قال ابن زیاد: وما هو؟ قال: تشخص إلی أهل الشام أنت وأهل بیتك سالمین بأموالكم، فإنه قد جاء حقُّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك..). [12] .

4) من مجموع النصوص التأریخیة التی روت لنا قصة هذا اللقاء بین هانیء (رض) وبین ابن زیاد، أو جوانب من هذا اللقاء، یتضح جلیّاً أنَّ هانیء بن عروة (رض) كان یتمتع وهو فی التسعین من العمر برباطة جاءش، وثقة بالنفس، وشجاعة ملفتة للانتباه، كما كان فی غایة الاطمئنان والثقة باءنَّ مذحج لن تسلمه إذا تعرّض لمكروه، وأنَّ الكوفة یومذاك بالفعل كانت ساقطة بید المعارضة وماهی إلاّ إشارة تصدر عن مسلم علیه السلام حتّی یتحقق ذلك الامر فعلاً وعلناً، فقوله لابن زیاد لمّا هدّده بالقتل: (إذن لكثر البارقة حول دارك!) كاشف عن ثقته بردّ الفعل المناسب الذی كان لابد سیصدر عن مذحج خاصة وعن قیادة الثورة عامة، ومدُّه یده الشریفة إلی قائم سیف الشرطی لیقتل به ابن زیاد كاشف عن شجاعته الفائقة، وقوله لابن زیاد: (.. تشخص إلی أهل الشام أنت وأهل بیتك سالمین بأموالكم، فإنه قد جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك)، أو قوله: (أیها الامیر، قد


كان الذی بلغك، ولن أضیع یدك عندی، فأنت آمن وأهلك! فَسِرْ حیث شئت!) [13] كاشف عن ثقته التامة بأنَّ الكوفة فعلاً بید قیادة الثورة، وأنّ ابن زیاد لیس إلاّ أمیراً رمزیاً یومذاك! ولایخفی علی ذی درایة أنّ قوله لابن زیاد: (.. فإن شئت أعطیك الان موثقاً مغلّظاً الاّ أبغیك سوءً ولاغائلة، ولاتینّك حتّی أضع یدی فی یدك، وإنْ شئت أعطیتك رهینة تكون فی یدك حتّی آتیك، وأنطلقُ إلیه فآمره أن یخرج من داری إلی حیث شاء من الارض فأخرجُ من ذمامه وجواره!) كان قولاً صادقاً وفیه من العمق السیاسی الشیء الكثیر، إذ لو خرج من القصر لاخرج مسلم بن عقیل علیه السلام من داره فعلاً ولكن إلی قیادة الثورة بالفعل، ولاعلنها حرباً علی ابن زیاد یؤلّب لها الالاف الكثیرة من المبایعین من مذحج وكندة وبقیة القبائل الاخری، فلیس بعد یومه ذاك مایدعو الی الصبر والانتظار بعدَ أن اخترق ابن زیاد حركة المعارضة من داخلها وعلم بكلّ شیء! وهذا لاینافی أنّ هانئاً (رض) كان صادقاً بقوله لابن زیاد: (ألاّ أبغیك سوءً ولاغائلة، ولاتینّك حتی أضع یدی فی یدك!)، لانّه قد یشفع لابن زیاد بعد انتصار الثورة بالفعل وسیطرتها علی الكوفة وعلی القصر ویأتیه كما وعده ویضع یده فی یده لیسرّحه مع أهله إلی الشام، ولهانیء بن عروة (رض) من المنزلة الرفیعة عند مسلم علیه السلام وعند أهل الكوفة ما یُستبعد عندها ردُّ شفاعته، أللّهمَّ إلاّ إذا اعتُرضَ علیه بالدماء الزاكیات التی سفحها ابن زیاد ظُلماً وجورا.



[1] اختلفت المصادر التأريخية في أنّ أحد رسل ابن زياد إلي هانيء كان أسماء أو إبنه حسّان، لكنّ رواية الارشاد في المتن توحي وكأنّ حسّاناً لم يكن أحد الرسل لكنّه صحب أباه إلي هانيء، فلمّا رأي ما صنع ابن زياد بهانيء اعترض عليه، فردَّ عليه ابن زياد: (وإنّك لهاهنا!؟) وكأنه لم يلتفت إلي وجوده من قبل!.

[2] راجع: حياة الامام الحسين بن علي، 2:372.

[3] راجع: حياة الامام الحسين بن علي، 2:372.

[4] تجارب الامم، 2:45 46.

[5] تأريخ الطبري،3:282.

[6] في تجارب الامم، 2:47 أنّ الذي اعترض علي ابن زياد أسماء بن خارجة نفسه، وكذلك في الفتوح، 5:84.

[7] الفتوح، 5:84.

[8] تاريخ الطبري، 3:284.

[9] مثير الاحزان: 34.

[10] الفتوح، 5: 82-83.

[11] روي الطبري في تأريخه، 3:283 أنّ ابن زياد قال لهانيء(رض): (ياهانيء، أما تعلم أنَّ أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحداً من هذه الشيعة إلاّ قتله غير أبيك وغير حُجر، وكان من حُجر ماقد علمتَ، ثمَّ لم يزل يُحسنُ صحبتك، ثمَّ كتب إلي أميرالكوفة أنّ حاجتي قِبَلَكَ هانيء؟ قال: نعم. قال: فكان جزائي أن خبّأت في بيتك رجلاً ليقتلني!؟...) هذا هو الجميل أو الاحسان أو البلاء الحسن الذي كان لزياد عند هانيء(رض).

[12] مروج الذهب، 3:67.

[13] تاريخ الطبري، 3:282؛ وفي رواية ابن قتيبة أن ابن زياد قال لهانيء: (يا هانيء، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال: بلي. قال: ويدي؟ قال: بلي.. قد كانت لكم عندي يدٌ بيضاء، وقد أمنتك علي نفسك ومالك!) (الامامة والسياسة، 2:5).